في فصل الصيف وبالتحديد في بداية أيام الأجازة الصيفية كنت ألقي محاضرة بعنوان “كيف نقضي الأجازة بطريقة جديدة” ، وبدأت بالأمل كعادتي ثم أخذت أشرح المحاضرة وفي لحظة الاستراحة لاحظت أن معظم الحاضرين يعانون من بعض الفراغ ، فلم يمضي إلا أيام قليلة على بداية الأجازة،ولكن كثير منهم كان يشعر بالضيق ولا يدري ماذا سوف يفعل في هذه الأيام القادمة، هل تذكر تلك الأيام التي شعرت بها بالفراغ سواء في الأجازة أو غيرها ؟!

تمر على الإنسان ساعات أو لحظات من الفراغ النفسي والمادي ، ولن أبالغ في التعبير إنها أبشع اللحظات التي تمر علينا ، لحظات تشعر فيها بان لا جهة لنا ولا شيء نفعله, لحظات تسقط فيها قيمة الإنسان ونظرته لنفسه وتنحدر طاقته إلى الأسوأ ، ولكن لننظر إلى الجانب المشرق كما تعودنا و نرى تلك الأوقات التي كنا نعمل فيها بجد واجتهاد عملاً نحبه ونتمتع بتنفيذه ،هل تشعر بالوقت في هذه الساعات التي تعمل فيها أجمل الأعمال ؟هل لديك أفكار سلبية في هذا الوقت ؟ هل حالتك الجسدية مُتعبة في هذه اللحظة من العمل؟ طبعا سوف تكون الإجابة ايجابية بعكس تماماً ما يحدث لنا في وقت الفراغ فالطاقة السلبية تتدفق إلى العقل وتشعر عقولنا بأن الوقت يمر ببطء وتأتي الأفكار السلبية إلى العقل،وهنا تظهر أضرار الفراغ في حياتنا التي تشكل معظم المشاكل الموجودة في حياتنا الآن ولنذكر منها :

  • الفراغ أساس الانحراف عن الطريق الصحيح: وهذا طبيعي فعندما تكون عقولنا تفكر في الفراغ أي أنها لا طريق لها ، وهنا سوف تحاول أن تفعل أي شيء وتبدأ بسلوك أي طريق مهما كان للتخلص من هذا الشعور المؤلم ، ونجد الطرق هنا مختلفة مثل التدخين و المخدرات والخمور وشهوات النفس وكل الكوارث التي نسمع عنها وتأكد أنها كلها بدأت بهذه اللحظة من الفراغ في حياة أي إنسان.
  • إتباع الشيطان : والتفسير العلمي لهذا الضرر هو أن العقل البشرى يعمل باتجاه والاتجاه الآن في وقت الفراغ يساوي لا اتجاه ، فيبحث العقل عن اتجاه فلا يجد أمامه إلى إتباع اتجاه الهوى والشيطان (وشهوات النفس) ، يبدو انه تفسير روحاني بعض الشيء لكنه بعد الدراسة لا يوجد سوى هذا التفسير،إن الشيطان هو العدو الأول للإنسان وهو يعلم عن الإنسان في بعض الأحيان ما لا يعلمه الكثير عن أنفسهم لذلك فهو يمتلك معرفة واسعة عن نقاط ضعف الإنسان ، ومن أكثر نقط الضعف والمميزة في البشر والتي يكون فيها الإنسان صيد سهل للشيطان هو الفراغ.

إن عقل الإنسان لا يمكن في وقت من الأوقات أن يكون فارغ تماما يجب أن يكون مشغول بفكرة وحتى الفجوة بين الأفكار هي فكرة الانتقال من فكرة إلى الفكرة وهي في حد ذاتها فكرة، و تأكد أن كل إنسان في هذا الكون يمتلك طاقة ولا بد أن يخرجها ولكن الفكرة هنا من الذي سوف يوجهه هذه الطاقة إلى الطريق الصحيح وفي تحقيق النجاح،إنه الفارق بين النجاح والفشل فقط في كلمة الاختيار ، فالناجح يوجه طاقته في العمل لهدف حدده ويستمر في تحقيقه حتى يصل، أما الفاشل يمتلك طاقة أيضاً لكنه يضعها في لوم البشر وكل شيء حوله ويقتل كل فكرة إيجابية في نفسه، لذلك قال صلى الله عليه وسلم (..كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) رواه مسلم.

ولكن ما الذي يجعلنا نصل إلى هذه الحالة من الفراغ في حياتنا ؟ والإجابة تكمن في أنواع الفراغ فهناك نوعان أو بمعنى أخر سببين لحدوث الفراغ في حياتنا:

  1. فراغ من الهدف : وهذا إنسان لا يعرف أين هو ذاهب وليس له وجهة وبالتالي لا يفعل شيء فهو فارغ الرؤية والخطة والرغبة ، فماذا تتوقع له ؟ وهذا ما يحدث لنا في كثير من الأحيان ويحدث لكثير من الشباب ، فنجد أنفسنا نسير في هذه الحياة بلا هدف واضح ولا درب جيد ومحدد ،عندما كنت في محاضرتي التي بدأت بها هذا الموضوع أدركت أن معظم الحضور من الشباب لا يمتلكون أهداف واضحة لحياتهم لذلك أفردت وقت كبير من المحاضرة لتحديد الهدف ، وكانت مثمرة فعلاً فكأنني وضعت يدي على التشخيص لهذا المرض ووصلت إلى الجرح الحقيقي وبدأ الحوار بيني وبين هؤلاء الشباب وفي النهاية خرجنا بنتائج مذهلة فمعظم من كان في القاعة خرج بهدف سوف يفعله في هذه العطلة، لذلك فالحل سهل لهذا النوع من الفراغ وهو تحديد هدف في حياتنا
  2. فراغ الأفكار والأهداف المتراكمة : قد تقول لي إنك أخطئت كيف تجعلنا الأهداف ندخل في فراغ ، فنحن أصلاً في الفراغ نحتاج إلى هدف ، إنه نوع غريب جداً من الفراغ أنا شخصياً قد مررت به ، تمر علينا عندما يكون لدينا أفكار كثيرة ومتراكمة، لحظات تجعلنا عقولنا تتوقف إلى الفراغ ، فكلما زادت الأهداف من غير بداية في التنفيذ رغم التخطيط لها كلما زاد عقلك توهاناً وطبيعي أن طاقتك الجسدية سوف تشحذ وتزيد ، لكن المشكلة أن عقلك لن يوجه جسدك إلى هدفك بل سوف يذهب بك إلى عدم التفكير أو الفراغ ، وهذا أشبه يتوقف كل شيء في جهاز الكمبيوتر عن العمل (توقف النظام عن العمل) من كثرة العمليات وتداخلها مع بعضها البعض ، والحل بسيط يجب عليك بداية تشغيل جهازك من جديد ببرنامج واحد فقط وهذا يتحقق في حياتنا عن طريق أن نبدأ بجعل عقولنا تعمل من جديد وأن نشغلها بفكرة واحدة فقط وننظف تلك الأفكار الكثيرة حيث نبدأ بغلق الملفات التي لا تريدها الآن في جهازك (عقلك) ، وأتذكر في وقت من الأوقات كان عندي أكثر من عشرين هدفاً تقريباً وكلها كنت أعمل فيها وأخذت أواصل العمل والعمل حتى جاء الهدف الواحد والعشرين ليعلن عن استسلامي للفراغ ، توقفت عن كل ما أفعل وأخذت الأفكار السلبية تتخلل إلى عقلي فبدأت أفكر في الفشل وأني لن أحقق ما أريد وكأني أدخل في دائرة خبيثة من العدوى كما يسميها علماء الطب وأصبحت فارغاً تماماً من الأفكار الإيجابية ، وقررت أن اترك كل شيء لمدة ثلاثة أيام وكنت نادم على أنني لم أفعل شيء طوال ثلاث أيام من حياتي وذادت الأفكار السلبية، ولكني توقفت عن التفكير بهذه الطريقة وبدأت أفكر بطريقة إيجابية وهنا أحسست أنني أفعل شيء عكسي أو أن شيء ما يقاومني وبدأت أسئل وأحاول أن أتخلص من هذه المشكلة حتى أدركت أنه عليّ أن أبدأ بفكرة واحدة والترتيب لباقي الأفكار وأن أجعل الراحة في حياتي ، وغالباً يجب أن تكون تلك الراحة تُفيد الجسد والروح وهذا يجعلنا نفكر في التأمل مثلاً أو في الرياضة،أو قضاء إجازة ،أو رحلة وهكذا،وبعد هذا مباشرة أجعل هدف واحد فقط قيد التنفيذ واترك الباقي ،وطبعاً يجب أن تختار الأهم وتأكد بإذن الله –تعالى- أن تحقيقك لهذا الهدف سوف يجعلك تحقق البقية فلا تقلق بشأنهم وحقق هذا أولاً ، والمسألة تعتمد على تنظيم هذه الأهداف حسب الأوليات حيث الأهم فالأهم وهكذا ، ومن الطبيعي إذا انتهيت من أهم الأهداف فيكون من السهل عليك القيام بالأقل أهمية وهكذا ، وهذا فعلاً ما حدث معي تماماً.

إذن لماذا لا نجعل هذا العقل مشغول بفكرة كبيرة تجعل حياتنا كلها تتمركز حولها ونعمل من كل قلوبنا من أجلها ، ولماذا لا نخطط لأوقاتنا كيف نقضيها بأحسن وقت ممكن ولا نشعر بالوقت في أعمالنا المفضلة ، وهذا ما تحدث عنه اينشتاين في نظريته النسبية، فالإنسان إحساسه بالوقت نسبي تماما ويختلف حسب الحالة المزاجية ، فقد قام مجموعة من فريق البحث بتجربة بسيطة ، فلقد ثبتوا أشخاص بحبال فوق برج مرتفع ووضعوا تحت هذا البرج وسادة هوائية كبيرة وقاموا بجعل الأشخاص يقفزون من هذا الشيء المرتفع ، ثم بعدها كانوا يسألونهم عن الوقت المستغرق لكل واحد منهم في هذه القفزة ، وكانت النتائج غير متوقعة فمعظمهم لم يصيب الوقت المستغرق أبداً ، وبقياس نسبة الادرنالين في الجسم أثبت هذا الفريق أن هذا الهرمون يزيد إحساسنا بالوقت ، وهذا ما يحدث معنا في الفراغ فأنت تشعر بالوقت أكثر وتشعر أن الحياة تمر ببطء شديد من حولك ، وعكس هذا تماماً عندما نفعل أشياء نحبها فالوقت يمر بسرعة حتى أننا لا نشعر به.

لذلك من اليوم لنجعل أوقاتنا تتسم بالأمل والأهداف الكبيرة ومهما كانت أفكارنا سلبية ومهما أقترفنا من ذنوب فلنعلم أن الله غفور رحيم وهو على كل شيء قدير وقادر على أن يجعلنا نصل ونحقق الهدف لكن فقط علينا أن نبدأ نحن بوضع هذا الهدف مهما كانت حياتنا بها من فراغ ما يكفي ، وهنا سوف ندرك أننا خرجنا من هذا الفراغ حقيقةً لا كما كنا نخرج ونعود له من جديد ، وعملياً هذه الفكرة يمكن بسهولة تطبيقها في حياتنا عن طريق :

  1. ضع هدف كبير في حياتك وأبدأ في تحقيقه وكن على ثقة بأنك سوف تصل إليه
  2. أزل من ماضيك كل فكرة سلبية وأنظر إلى ماضيك على أنه تجربه مرت بما فيها من الخير والشر وأعلم أن الله غفور رحيم وأبدأ بقوة وأنت تنظر إلى هذا الماضي على أنه تجربة واقعية وأسأل نفسك دائماً :ماذا تعلمت من هذه التجربة؟ وتأكد أن كل ما تكتب هو نقاط قوة إيجابية اكتسبتها فأبدأ بتحقيق حلمك وهدفك من خلالها.
  3. خطط وضع الأهداف المهمة في أول جدولك ثم التي تليها وإذا شعرت بتزايد الأهداف فأبدأ بإزالة الأقل أهمية منها.
  4. ضع فترات للراحة في حياتك من العمل ولكن لا تفرط فيها لأنها من الممكن أن تتحول إلى فراغ وكسل.
  5. اجعل لك صديق أو معلم يساعدك دائماً ويشجعك على العمل والوصول إلى الهدف.

 

وانهي هذا الكلام بقول الإمام محمد الغزالي (شحن الأوقات بالواجبات..و الانتقال من عمل إلى عمل آخر و لو من عمل مرهِق .. إلى عمل مرفه – هو وحده الذي يحمينا من علل التبطل .. و لوثات أوقات الفراغ ).